الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالمتأمِّل في الشريعة الغرَّاء يجد أنَّ القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية لم يُثبتَا سوى حقٍّ دعا إليه الشَّرع وهَدَى به الضال، وما يقابله الباطل نهى الشرع عن ركوبه وحَذَّر من اقترافه، ولا مرتبةَ بينهما معلومة، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ﴾ [الحج: 62]، وقال تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ﴾ [يونس: 32]، وقال تعالى: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ: 24]، وقال تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ [الأنبياء: 18]، وقال : «القُرْآنُ حُجَةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ»(١- أخرجه مسلم في كتاب «الطهارة»، باب فضل الوضوء (1/121)، وأحمد في «المسند» (5/343)، والترمذي في كتاب «الدعوات» باب (3517)، والنسائي في كتاب «الزكاة»، باب وجوب الزكاة (2435)، وابن ماجه في كتاب «الطهارة»، باب الوضوء شطر الإيمان (280)، من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.)، فهو يدلُّ على النَّجاة باتباع الحقِّ والعمل به، وعلى سوء عاقبة من أعرض عنه بلا عمل واتَّبع الباطل ورضيَه(٢- انظر: «حاشية السندي على النسائي»: (5/8)، و«فيض القدير» للمناوي: (4/291).).
والتلبيس هو إظهار الباطل في صورة الحقِّ. ومَزْجُ الحقِّ بالباطل بالكتمان والتعمية هو صنيع أهل الباطل، لكن منهج أهل الحقِّ العملُ على بيانه وتمييزه عن الباطل، وهذا هو منهج أهل السُّنة جاءوا بالبيان الكافي وقابلوا الأمراض بالدواء الشافي، وتوافقوا على منهاج لم يختلف، كذا كانت حكمة بعثة الرسل من قبلُ. وكتمان الحقِّ إذا اقتضى المقام والحال والمصلحة بيانه في الحال من غير تأخير(٣- يجوز تأخير بيان الحقّ إذا اقتضت المصلحة وحال الناس كتمانَه، ولهذا قال علي رضي الله عنه «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحبُونَ أَنْ يُكَذَّب اللهُ وَرَسُولُهُ»؟ [أخرجه البخاري في «العلم» (1/225) باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا]، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «إِنَّكَ لاَ تُحَدِّثُ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلَغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً». [أخرجه مسلم «مقدمة الكتاب» (1/10)].) يجب بيانه ولا يجوز تعمية الحقِّ أو تلبيسه على وجه يعطِّل الحقَّ ويصرفه الملَبِّس عن الناس بالاشتباه والتضليل، فإنَّ الشيطان الجنِّي والإنسي يمزج كلاًّ منهما بالبيان مُشْتَبَهًا، وبالدواء سُمًّا. والتلبيس والكتمان صورتان ورد النكير الشرعي عليهما لخلوهما من الصدق المأمور به شرعًا، إذ هو من متمِّمات الإيمان ومكمِّلات الإسلام، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119]، ولا يخفى أنَّه بانتفاء الصِّدق يَحُلُّ الغشُّ والخداع والتزوير والتغرير والمكر والتلبيس والخيانة، وهذه الأوصاف القبيحة لا تكون خُلُقًا للمسلم بحالٍ؛ لأنَّ طهارة نفسِه المكتسبة من الإيمان والعمل الصالح تأبى أن تتجانسَ مع هذه الأخلاق الذَّميمة.
ومثل هذا الصنيع من الخُلُق غير المرضي غَلَّظه الله تعالى على اليهود المغضوب عليهم، الذين كانوا يعلمون الحقَّ لكنَّهم كانوا يكتمونه ويلبسونه على الناس حتى يشتبه عليهم الحقُّ بالباطل، فقد كانوا يقولون مثلاً محمَّد حقٌّ لكنَّه رسول الأُمِّيِّين لا جميع العالمين، فأنكر الله عليه تلبيسهم وكتمانهم الحقّ بقوله: ﴿وَلاَ تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 42].
وصُوَرُ تلبيس الحقِّ بالباطل عديدةٌ ومتنوعةٌ، ومصدُرها بلا شكٍّ من تلبيس إبليس اللعين، وقد وضع أبو الفرج عبد الرحمن بن الجَوزيّ البغدادي - رحمه الله - كتابًا في هذا الباب أغنانا عن إيراد صور التلبيس التي يقع فيها النَّاس في شراك إبليس وشباكه الشيطانية على مختلف درجاتهم وطبقاتهم، لكن الصورة التي أعني بها في هذا المقام بهذا المقال إنما هي عبث بعض المرتزقة الحاقدين من خصوم دعوة التوحيد - في بلدنا هذا - الذي استفحلت عداوتهم لهم وقويت رغبتهم في الدنيا ومناصبها من غير مبالاة لجهة كسبها، فحشا أقواله وتصريحاته بالتلبيس والتعمية، وغِيبة النَّاس ومدح النَّفس، وسمج الكلام والإكثار من اللغط، واتخذ من الجرائد والصحف سندًّا لتسويد أكاذيبه ومطيةً لنشر أباطيله، التماسًا للمال وتزلُّفًا للسُّلطان، وله مع مَنْ تعاون معه مآرب أخرى، كُلُّ ذلك على حساب الدِّين والقيم والأخلاق، ويدلُّ على هذا القصد إفلاس مقالاته من حُجَج الشرع وأدلة الفروع وأصول النظر، وليس عنده ما يعين الطبع على شموخه، إذ فاقدُ الشَّيءِ لا يعطيه، فترى الهوى يسرح فيه بلا زاد، ويشم البعيد منه رائحة الحقد والحسد والدَّغَل لهذه الأمة قبل القريب، واللهُ المستعان ونعوذ بالله من الخذلان، وأقول- وبالله التوفيق-:
إنَّ الحملة الشرسة المشحونة بالأراجيف والأكاذيب والأباطيل التي يفتعلها خصوم دعوة التوحيد - في بلدنا هذا وسائر بلاد المسلمين - للطعن في دعوة الشيخ محمّد بن عبد الوهاب – رحمه الله - الإصلاحية بشتى الأساليب والدعاوى الكاذبة، ووصفها بأنها دعوة سياسية حزبية مؤسسة على بغض النبي ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا﴾ [الكهف: 5]، وخاصة عند بحث بدعية الموالد والسيادة في الأذان والأوراد التي تضمنت غلوًّا في إطراء النبي ، ونحو ذلك لاستجلاب وتحريك عواطف المسلمين بمحبتهم النبي بتلك الدعاوى الآثمة باسم أن السلفيين لا يحبون النبي ويبغضون الصلاة عليه، كل ذلك تقصدًا لتنفير الناس عن منهج أهل السنة ولصدّ انتشار الدعوة السلفية المؤسسة على تجريد التوحيد من الشركيات، ونبذ جميع السبل إلاَّ سبيل محمَّد ، وقد بينت في مقال سابق أنَّ دعوة الشيخ محمَّد بن عبد الوهاب(٤- قال السعيد الزاهري –رحمه الله‑ (عضو إداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين) في رده على وزير المعارف بالمغرب الأقصى آنذاك: «بقي شيء واحد وهو قول الوزير: (إنّ مؤسس هذا المذهب هو شيخ الإسلام ابن تيمية، واشتهر به ابن عبد الوهاب). والواقع أنَّ مؤسس هذا المذهب ليس هو ابن تيمية ولا ابن عبد الوهاب، ولا الإمام أحمد ولا غيره من الأئمة والعلماء، وإنما مؤسسه هو خاتم النبيين سيدنا محمد بن عبد الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم على أنه في الحقيقة ليس مذهبًا، بل هو دعوة إلى الرجوع إلى السنة النبوية الشريفة، وإلى التمسك بالقرآن الكريم، وليس هنا شيء آخر غير هذاL. [«مجلة الصراط السوي» (العدد: 5/5)، الصادرة في 26 جمادى الثانية 1352ﻫ، 16 أكتوبر 1933م].) -رحمه الله- ما هي «إلاَّ امتداد لدعوة المتبعين لمحمّد من السلف الصالح ومن سار على نهجهم من أهل السنّة والجماعة، التي لا تخرج عن أصولهم ولا على مسلكهم في الدعوة إلى الله بالحجّة والبرهان قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108]، وقد كانت دعوتُه ودعوةُ أئمّةِ الهدى والدِّين قائمةً على محاربة البدعِ والتعصّبِ المذهبيِّ والتفرّقِ، وعلى منع وقوعِ الفتن بين المذاهب والانتصار لها بالأحاديث الضعيفة والآراء الفاسدة، وترك ما صحّ عن النبي من السُّنن والآثار، كما حاربت دعوته تَنْزيل الإمام المتبوع في أتباعه مَنْزلة النبي في أُمَّته، والإعراض عن الوحي والاستغناء عنه بأقوال الرجال، فمثل هذا الالتزام بمذهب واحد اتُّخِذَ سبيلاً لجعل المذهب دعوة يُدعى إليها يوالى ويعادى عليها، الأمر الذي أدّى إلى الخروج عن جماعة المسلمين، وتفريق صفّهم، وتشتيتِ وحدتهم، وقد حصل بسبب ذلك تسليط الأعداء عليهم واستحلال بيضتهم، فأهل السُّنَّة والجماعة إنما يدعون إلى التمسّك بوصية رسول الله المتمثّلة في الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة وما اتفقت عليه الأُمَّة، فهذه أصول معصومة دون ما سواها، قال : «إِنِّي قَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا مَا أَخَذْتُمْ بِهِمَا, أَوْ عَمِلْتُمْ بِهِمَا, كِتَابَ اللهِ, وَسُنَّتِي, وَلَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ»(٥- أخرجه الحاكم في «المستدرك»: (319)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (20918)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال ابن عبد البر في «التمهيد» (24/331): «وهذا أيضًا محفوظ معروف مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم شهرة يكاد يستغني بها عن الإسناد». وصححه الألباني في «صحيح الجامع»: (2937).)، وقال : «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ مِن بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»(٦- أخرجه أبو داود في «السنة» باب في لزوم السنة: (4607)، والترمذي في «العلم» باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع: (2676)، وابن ماجه في «المقدمة» باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين: (42)، والدارمي في «سننه»: (95)، والحاكم في «المستدرك»: (329)، وأحمد: (16629)، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. والحديث حسنه البغوي في «شرح السنة»: (1/181)، وصححه ابن الملقن في «البدر المنير»: (9/582)، والألباني في «صحيح الجامع»: (2549)، وفي «السلسلة الصحيحة»: (937).).
إنّ استصغار أهلِ السُّنَّة والجماعة والتنقصَ من قدرهم بنبزهم «بالوهابية» تارة، و«بعلماء البَلاط» تارة، و«بالحشوية» تارة، و«بأصحاب حواشٍ وفروع» تارة، وﺑ «علماء الحيض والنفاس» تارة، وﺑ «جهلة فقه الواقع» تارة، وﺑ «تَلَفِيُّون أتباع ذنب بغلة السلطان» تارة، وﺑ «العُملاء» تارة، وﺑ «علماء السلاطين»، ما هي إلاّ سُنَّة المبطلين الطاعنين في أهل السُّنَّة السلفيين، ولا تزال سلسلة الفساد لا تنقطع يجترُّها المرضى بفساد الاعتقاد، يطلقون عباراتهم الفَجَّة في حقّ أهل السُّنَّة والجماعة، ويلصقون التهم الكاذبة بأهل الهدى والبصيرة، لإبعاد الناس عن دعوتهم، وتنفيرهم عنها وصدِّهم عمّا دعوا إليه، والنظر إليهم بعين الاحتقار والسخط والاستصغار، وهذا ليس بغريب ولا بعيد على أهل الباطل في التجاسر على العلماء وما يحملونه من علم ودين باللمز والغمز والتنقّص، فقد طُعِنَ النبيُّ بألقاب كاذبة، وَوُصِفَ بأوصاف خاطئة، قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ [الذاريات:52-53]، وقد جاء هذا الخُلُق الذميم على لسان رجلٍ من الخوارج في قوله للنبيِّ : «اعْدِلْ»(٧- أخرجه البخاري في «أبواب الخمس» باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين: (2969)، ومسلم في «الزكاة» باب ذكر الخوارج وصفاتهم: (2449)، وابن ماجه في «المقدمة» باب في ذكر الخوارج: (172)، وابن حبان في «صحيحه»: (4819)، وأحمد: (14405)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.)، وقال آخر منهم لعثمان رضي الله عنه عندما دخل عليه ليقتله: «نعثل»(٨- أخرجه ابن الجعد في «مسنده»: (2239)، وابن سعد في «الطبقات الكبرى»: (3/58)، من حديث كنانة مولى صفية قال: «رأيت قاتل عثمان في الدار رجلا أسود من أهل مصر يقال له: جبلة باسط يديه أو قال رافع يديه يقول: أنا قاتل نعثل». قال ابن الأثير في «النهاية» (5/80): «كان أعداء عثمان رضي الله عنه يسمونه نعثلاً تشبيهًا برجل من مصر، كان طويل اللحية اسمه: نعثل، وقيل: النعثل: الشيخ الأحمق وذَكَر الضِبَاع».). قال: الشاطبي: «ورُوِي أنَّ زعيمًا من زعماء أهلِ البدعِ كان يريد تفضيلَ الكلام على الفِقه، فكان يقول: إنَّ عِلم الشافعيِّ وأبي حنيفةَ جُملته لا يخرج من سراويل امرأة» فعلّق عليه قائلاً: «هذا كلامُ هؤلاء الزائغين، قاتلهم الله»(٩- «الاعتصام» للشاطبي: (2/239).). والطعن في ورثة الأنبياء بريد المروق من الدِّين، ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63]، ومتى وُجدت أُمّةٌ ترمي علماءَها وصفوتَهَا بالجهل والتنقّص فاعلم أنهم على بابِ فتنةٍ وهَلَكةٍ، وأيّ سعادة تدخل على أعداء الإسلام بمثل هذا الأذى والبهتان»(١٠- «(نقد وتوضيح) في تحديد أهل الإصلاح وسبب تفرق الأمة» للمؤلف.).
هذا، وفي معرض بيان حال أهل الدجل الذين أحكموا الحيلة في هذه الأمة المسكينة بتخديرها بالرُّؤى والمنامات والفداء والمكفرات، وزعزعوا عقيدتها في الله بما أثبتوه لأنفسهم من التصرف في الكون أحياء وأمواتًا، ومن مشاركة الخالق فيما تفرد به من الخلق والأمر، وأفسدوا فطرتها بما ابتدعوه لها من عبادات بالزيادة والنقصان، ففي هذا المضمون التحذيري يذكر الشيخ محمّد البشير الإبراهيمي - رحمه الله -(١١- هو محمَّد البشير بن محمَّد السعدي بن عمر بن عبد الله بن عمر الإبراهيمي الجزائري، يرتفع نسبه إلى إدريس بن عبد الله مؤسِّس دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى، كان -رحمه الله- عالِمًا فذًّا وإمامًا من أئمة السلفية وأديبًا مربيًا، ومجاهدًا مصلحًا، شملت كتاباته قضايا الوطن العربي وهموم العالم الإسلامي، توفي بالجزائر سنة (1385ﻫ-1965م). انظر ترجمته في: «مقالة الإبراهيمي» تحت عنوان: «أنا» مجلة مجمع اللغة العربية: (21/135-154)، «مقالة الهاشمي التيجاني» نشرها بمجلة «التهذيب الإسلامي»: (ع: 5، 6، س/1). «البشير الإبراهيمي نضاله وأدبه» لمحمد المهداوي. رسالة ماجستير بعنوان: «البشير الإبراهيمي أديبًا» قدَّمها السيد عباس محمَّد بكلية الآداب جامعة بغداد، سنة (1983م)، «الأعلام» للزركلي: (7/54).) توجيهًا صادقا ودفاعًا ماتعًا عن الوهابية وما ينقمون منها وهذا نصه: «يقولون عنا أننا وهابيون، كلمة كثر تردادها في هذه الأيام الأخيرة حتى أَنْسَت ما قبلها من كلمات: عبداويين وإباضيين وخوارج، فنحن - بحمد الله - ثابتون في مكان واحد وهو مستقر الحقّ، لكن القوم يصبغوننا في كل يوم بصبغة ويَسِمُونَنَا في كل لحظة بِسِمَةٍ، وهم يتخذون من هذه الأسماء المختلفة أدوات لتنفير العامة منا وإبعادها عنا وأسلحة يقاتلوننا بها، وكلما كلَّت أداة جاءوا بأداة، ومن طبيعة هذه الأسلحة الكلال وعدم الغناء، وقد كان آخر طراز من هذه الأسلحة المغلولة التي عرضوها في هذه الأيام كلمة «وهابي» ولعلهم حشدوا لها ما لم يحشدوا لغيرها وحفلوا بها ما لم يحفلوا بسواها، ولعلهم كافأوا مبتدعها بلقب (مبدع كبير)»، ثم أضاف – رحمه الله - قائلاً:
«يا قوم!! إنّ الحق فوق الأشخاص، وإنّ السنة لا تسمى باسم من أحياها، وإنّ الوهابيين قوم مسلمون يشاركونكم في الانتساب إلى الإسلام ويفوقونكم في إقامة شعائره وحدوده، ويفوقون جميع المسلمين في هذا العصر بواحدة وهي أنهم لا يقرون البدعة، وما ذنبهم إذا أنكروا ما أنكره كتاب الله وسنة رسوله وتيسر لهم من وسائل الاستطاعة ما قدروا به على تغيير المنكر؟
أإذا وافقنا طائفة من المسلمين في شيء معلوم من الدين بالضرورة، وفي تغيير المنكرات الفاشية عندنا وعندكم - والمنكر لا يختلف حكمه بحكم الأوطان- تنسبوننا إليهم تحقيرًا لنا لهم وازدراءً بنا وبهم، وإن فرّقت بيننا وبينهم الاعتبارات فنحن مالكيون برغم أنوفكم، وهم حنبليون برغم أنوفكم، ونحن في الجزائر وهم في الجزيرة، ونحن نُعمِل في طريق الإصلاح الأقلامَ، وهم يُعمِلون فيها الأقدامَ، وهم يُعْمِلُونَ في الأضرحة المعاول ونحن نُعْمِلُ في بانيها المقاول»(١٢- «آثار الإمام محمَّد البشير الإبراهيمي» (1/123-124).).
وقال أبو يعلى الزواوي –رحمه الله-: « وهذا الذي وقع لنا معشر المصلحين المخلصين في هذا العصر كلما نوّهنا أو نبّهنا إلى خطإ أو فساد في العقائد والعوائد أو عارضنا المفاسد والمعابد بالباطل أو ذكرنا الملل والنحل التي تفرعت في الإسلام الذي جاء بالتوحيد قام في وجوهنا فريق من البله الجامدين المغفلين وخرجوا إلينا بطرا ورئاء الناس أنهم يدافعون عن الأولياء والصالحين فيلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون»(١٣- «الشهاب»: (3/351).).
ونختم هذه الرسالة بكلام محمَّد الشيخ البشير الإبراهيمي –رحمه الله- بقوله:
«إننا نجتمع مع الوهابيين في الطريق الجامعة من سنة رسول الله ، وننكر عليهم غلوهم في الحقّ كما أنكرنا عليهم غلوهم في الباطل، فقعوا أو طيروا فما ذلك بضائرنا وما هو بنافعكم»(١٤- «آثار الإمام محمَّد البشير الإبراهيمي» (1/125).).
قلت: وكذلك هم أهل السنة أتباع السلف الصالح لم يكتموا مذهبَهم، وكلمتُهم في الحقِّ ظاهرةٌ، لا يُثنِيهم عن المُضِيِّ في إظهار الحقِّ وبيانه أهلُ الخِذلان والتقاعس، قال : «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ»(١٥- أخرجه مسلم في «الإمارة» باب قوله لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق.. : (4920)، والترمذي في «الفتن» باب ما جاء في الأئمة المضلين: (2229)، وأحمد: (21889)، وسعيد بن منصور في «سننه»: (2372)، من حديث ثوبان رضي الله عنه.).
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.[center]